ذكريات عالقة في وش النسكافيه.
كانت مع بدايةِ كابوسٍ يعايشه كل مصريّ؛ كابوسٌ يأتي في مراحل التكوين الأولى للشخصية، ماذا تريد، وكيف أنت؟ ولم؟ في وقت تجاهد فيه كل شيء تقريبًا حتى جسدك الذي تُؤّرقه الهرمونات والعضلات وحب الشباب ونظرات أهلك وأقاربك التي يملئها الأمل الذي يشوبه الحسرة والحزن والتعبير الدارج "والله وكبرت يا..."...
الكابوس يدعى الثانوية العامة، فيه تتخذ قرارًا مسبق تغامر به بمسار حياتك بأكملّه... مقابل ماذا ستحفظ، وأنواع الكتب التي ستحفظها؟ أهي كتب أحياء، تاريخ؟ أم نوعيات مسائل وأفكار! وسيكون عليك أن تصبح وتمسي على موادٍ لا تؤّهلك لشيء سوى إختبار "المليء والصب" حيث تملأ نفسك بالمعلومات التي لا قيمة لها سوى أن تصبها لاحقًا في الامتحان. فتقضي نهارك في الدروس الخصوصية، فيتوجب عليك السهر ليلًا... ويتحتم عليّك البدء بشرب الكافيين، وهكذا تبدأ أول ذكرياتي تعلق بوش النسكافيه.
ثم كانت ثورة تونس، تبعتها ثورة يناير بدون أي مقدمات، لأستيقظ صبيحة 23 يناير على دعواتٍ على الفيس بوك عن ثورة للعدالة الاجتماعية وعلى شباب قد بدأوا ينسابون في الميادين، كنت في المرحلة الأخيرة من الثانوية العامة، وكان من الصعب عليّ حتى متابعة الأخبار على التلفزيون، فالصباح كان مُستهلَكًا تمامًا في الدروس الخصوصية، واستمرت صحبة السهر... المكتب الكئيب بملازمه العقيمة وبالطبع النسكافيه، ولكن هذه المرة كانت هناك إضافة جديدة وهي الهاتف، حيث ظهرت في تلك الفترة ثغرات الإنترنت الـOpera، والـHandlers والـCracked Browsers فبدأت أتتابع الثورة بشغف عبر الهاتف، ووقتها شعرت لأول مرةٍ بالفراغ، خاصة مع بداية فوضى المصطلحات التي صاحبت الثورة وأدركت حينها أنني جاهلٌ كليًا بالسياسة حتى المعلوماتِ العامة منها، ومضت الأيامُ وأجهضت الثورة بنجاح، وتفرقت الفرق، وبدأت أتابع الأخبار وأقرأ الكتب لأول مرة بعد سلاسل ما وراء الطبيعة، والرجل المستحيل، وبدأت رحلتي مع تبسيط الليبرالية، الجمهورية لأفلاطون، وتبسيط الفلسفة ومبادئ المنطق... تبعها دخولي عالم التدوين، لتعلق ذكرى أخرى في وش النسكافيه لكن هذه المرة للسطحيّ الشغوف الذي يحاول تنوير نفسه.
مضت الأيام سريعًا، ونجحت في تحصيل قدرٍ كافٍ من المعلومات، لكنني أصبحتُ مغرورًا فخورًا بقلائل الكتب التي قرأتها، كنت ساذجًا، ولم أدرك أن ما زلت ذلك السطحيّ الجاهل الفخور، وضيعّت شيئًا جميلًا بعد اكتراثي والبعد الساذج الذي اكتسبته... ونجحت في إبعاد أول علاقاتي عنّي...
منذ سنتين تقريبًا، كنت في موعدٍ مع أول صديقاتي، وذهبنا في موعدنا إلى إحدى مولات القاهرة، تحديدًا "سيتي سنتر"، وحجزنا تذاكر الفيلم الشهير “Warm Bodies”، وقررنا قتل وقت الانتظار بالجلوس في مقهىً قريبٍ... بادرتها بالكلام، فقد كانت غاضبةً، ولا ألومها على غضبها؛ فكنت قد تجاهلت بعض مكالمتها وبعض رسائل الـSMS –لم يكن الـWhatsapp منتشرًا ذلك الانتشار في 2013-...
فأشاحت بوجهها، منتظرة مني الاعتذار، ولكني لم أعتذر... وكأنني فيلسوفٌ أو كاتبٍ مشهور تعانق مبيعاته السماء... لم أذكر لها أنها اختارتني وصبرت عليّ وتحملت عدم مبالاتي الشديدة، وأحاديثي الململة عن زاردشت، وذدت الطين بلةً بأخبارها عن تفاهتها وسطحيتها... خالقًا لنفسي الحق في الحكم على الناس ببضع كتب وآراءٍ متحررة... حتى إنني تماديت أكثر، عندما سألتني عني الحب... وأخبرتها أنّه بسبب التستسرون والأستروجين ليس إلا! كنت عديم الإحساس متفاخرًا بالمعلومات، حتى أنني في خضم شجارنا في ذلك اليوم طلبت نسكافيه! وكم أوّد أن أعتذر منها، فلم تتح ليّ الفرصة أبدًا أن أعتذر لها، لذا أينما كنتي أريدكِ أن تعلمي أنني في غايةِ الأسف... لكِ ولي، وأتمنى لك السعادةَ أينما كنتِ! وهكذا علقت ومازالت عالقةٌ هذه الذكرى في وشِ النسكافيه.
وهكذا تعلق الأشياء بذاكرتنا، بالمكان، بالزمان وبالأحداث، وربما في أكوابِ قهوتنا أو حتى في انعكاس المرآة، فالحياة مثلها مثل الشريطٍ المصوّر، يتسنى لنا أن نعيش بعد لحظاته مراتٍ ومراتٍ، حتى أن خيار الـRewind متاحٌ، ولكن بطريقةٍ آخرها في الأحلام وفي كل شيء نوّد أن نسترجعه مرة أخرى لنعاود ونندم، ونبتسم، ونعاود ونبتسم ونندم، مهما حاولنا التملص من الأمر وتناسيه ستبقى الذكرياتِ كڤيديو حيث دائمًا الشمس مشرقةً، أو ليلٌ كالح الظلمة، فمهما يكن ومهما سيكون، ستستمر حياتنا، وسيبقى نسكافيهنا لنتذكر الذكريات العالقة لنستمد وقودًا وتصحيحًا ورؤية للمستقبل حيث كل شيء على ما يرام!
الكابوس يدعى الثانوية العامة، فيه تتخذ قرارًا مسبق تغامر به بمسار حياتك بأكملّه... مقابل ماذا ستحفظ، وأنواع الكتب التي ستحفظها؟ أهي كتب أحياء، تاريخ؟ أم نوعيات مسائل وأفكار! وسيكون عليك أن تصبح وتمسي على موادٍ لا تؤّهلك لشيء سوى إختبار "المليء والصب" حيث تملأ نفسك بالمعلومات التي لا قيمة لها سوى أن تصبها لاحقًا في الامتحان. فتقضي نهارك في الدروس الخصوصية، فيتوجب عليك السهر ليلًا... ويتحتم عليّك البدء بشرب الكافيين، وهكذا تبدأ أول ذكرياتي تعلق بوش النسكافيه.
*******
*******
منذ سنتين تقريبًا، كنت في موعدٍ مع أول صديقاتي، وذهبنا في موعدنا إلى إحدى مولات القاهرة، تحديدًا "سيتي سنتر"، وحجزنا تذاكر الفيلم الشهير “Warm Bodies”، وقررنا قتل وقت الانتظار بالجلوس في مقهىً قريبٍ... بادرتها بالكلام، فقد كانت غاضبةً، ولا ألومها على غضبها؛ فكنت قد تجاهلت بعض مكالمتها وبعض رسائل الـSMS –لم يكن الـWhatsapp منتشرًا ذلك الانتشار في 2013-...
- تشربي إيه؟
فأشاحت بوجهها، منتظرة مني الاعتذار، ولكني لم أعتذر... وكأنني فيلسوفٌ أو كاتبٍ مشهور تعانق مبيعاته السماء... لم أذكر لها أنها اختارتني وصبرت عليّ وتحملت عدم مبالاتي الشديدة، وأحاديثي الململة عن زاردشت، وذدت الطين بلةً بأخبارها عن تفاهتها وسطحيتها... خالقًا لنفسي الحق في الحكم على الناس ببضع كتب وآراءٍ متحررة... حتى إنني تماديت أكثر، عندما سألتني عني الحب... وأخبرتها أنّه بسبب التستسرون والأستروجين ليس إلا! كنت عديم الإحساس متفاخرًا بالمعلومات، حتى أنني في خضم شجارنا في ذلك اليوم طلبت نسكافيه! وكم أوّد أن أعتذر منها، فلم تتح ليّ الفرصة أبدًا أن أعتذر لها، لذا أينما كنتي أريدكِ أن تعلمي أنني في غايةِ الأسف... لكِ ولي، وأتمنى لك السعادةَ أينما كنتِ! وهكذا علقت ومازالت عالقةٌ هذه الذكرى في وشِ النسكافيه.
*******
تعليقات
إرسال تعليق