كان يذهب كُل ليلة إلى مكانٍ مظلمٍ تسكنه الأرواح، يُشاع في القرية أنّه قد ترك الإسلام، وأعتنق ديانةً للشياطين، وكل ليلةٍ يذهب هناك ليؤدي طقوسًا شيطانيةٍ يتقرب بها من إلهه الجديد (لوسيفر)، لم يقترب منه أحدٌ قط، ولم ير أحدٌ وجهه فقد كانت طقوسه دائمًا بعد منتصف الليل، ليبدأ طقوسه اللي لم يعهدها أهل القرية، بعزفٍ منفردٍ للساكسفون يدوم لساعة وفي بعض الأحيان أكثر يصاحبه دائمًا بكاءًا شديدًا، نفس اللحن "صحيح!"، لسباندو باليت... كل ليلة... وفي أواخر عام 2013، كانت قد ضاقت وأستفحلت وأستقوت قلوب متطرفي القرية، فجمعوا أهل القرية، وأعلنوا قرارهم بأنّه يجب أن يُقتل هذا الكافر اللعين الذي يعبد الشيطان ويدّنس أرض قريتهم الطاهرة، وبالفعل ترصّدوا به في اليوم التالي أمام المقابر حيث كان يذهب كل ليلة ليعزف لإبنته الراحلة أغنيّة ما قبل النوم، ليلحق بها هو الآخر، ولكن بظهرٍ قد علق به ساطورٍ كان سبب وفاته.
نحو السماء يتوجهُ نظري من شرفة المنزل وصوت ألحانِ سيبير يصدع من هاتفي معيدًا عليّ أشجاني ففي برود صيف ليل القاهرة، ومن هذه الشرفة اللعينة؛ أتذكر كيف كانت تُغني...
قاطعني صوت سيبير من بين ألحان الفولك: ''للبحارة!'' ابتسمت وقلت في نفسي: ''لا يا عزيزي... في حالتي هذه لم تكن تغني للبحارة... كانت تغني لعصفور أو بغبغاء لا أدري... في قفص في شرفتها... كل ليلة... في نفس التوقيت، ليغرّد العصفور فرحًا... بينما وقع صوتها يجلد قلبي، بينما تبتسم لتعطي المشهد جمالًا، أم أنها تهزأ بي بابتسامتها الآسرة... فهي تعلم تمام العلم أنني أراقبها كل ليلة ولا أهتم ماذا تظن بي، فلم أعد أستطيع النوم من دون أن أسمعها تنشد ''عصفور طل من الشباك وقالي يا نونو''.
ثم انقطعت، لا أدري لماذا؟ القفص ما يزال في الشرفة... وأكاد أجزم أنني أسمع العصفور بداخله يصرخ شوقًا إلى إنشادها... ليخيم على الشرفة جوٌ بارد كئيب... ما زلت إلا هذه اللحظة أحاول أن أتذكر كيف كانت تبدو وما يزال صدى صوتها عالق في أذناي....
كل ليلة أقف في الغرفة منتظرًا ظهورها إلا أنها كل مرة تُخيب ظني لالتقط الهاتف أرفع الصوت ... وأغني مع ألحان الموسيقى في حزن... بينما أغلق الشرفة لأرتمي على السرير فاقد الأمل...
''أصبح من الصعب
أن أجدك في ذكرياتي...
أطوي جراحي، وأحاول أن أغط
عميقًا في النوم...
محاولًا سد الفراغ.''
The Birdcage Impressionist women - Frederick Carl Frieseke