يحضرني أننّي ذات مرةٍ جلست مع بعض الأصدقاء على أحدِ المقاهي الشعبية في وسط البلد عامِ 2012 وأخذنا نتحدث بشغفِ الثورةِ الأول عن مصر المستقبلِ ورؤيتنا لمصر عام 2030، كرؤية موضوعيّة أن يستلزم للوطن على الأقل خمسة عشر عامًا لأن يكون على الطريق الصحيح، تاركين الأحلام الواهية لمعظم الرموز الذين كانوا رموزًا على الجانب أو بالأحرى بالتعبير الشعبي: «بوسه وحطه جنب الحيط».
كان على رأس النقاش ذلك اليوم القضيّة الفلسطينية، وما جعلها كذلك هو تلك الدعوات وقتها وكانت تسمى «بالزحف للأقصى» في ذكرى النكبة وأشتد النقاش الذي لا أدعي أنّه كان موضوعيًّا بشكل كامل، فمعظمنا كانت تدفعه العواطف والهوية في الأطروحات، اختلفنا كثيرًا وعَلَى الصوت وتمسّك كلٌّ منا حتى ساد الصمت كأنّ صوت عمر سيلمان أوقفنا وقال: «Egyptian people are not cultured enough for democracy!» ساعتها فقط تعلمتُ كيف تضيع الحقيقة! ورأيت ذلك تأكيدًا وبرؤى العين يومها وبعدها بعد توالي الأحداث.
تضيعُ الحقيقة بين طرفيّ الحوار والنزاع، تضيع بكل كلمةٍ وبكلِ حرفٍ وبكل تأويلٍ بقصدٍ أو بدون، تضيع وتختفي بتقلّب الأزمان وبتقلّب المنفعةِ، وحتى بتبادل الأوضاعِ والكراسي، نشاهد اليوم والأمس كيف يتم تشويه الحقيقة التي تختلفُ باختلاف الرواية والشاشةِ بخيرٍ وشر يتبدّل بتبدّل الرواة وباختلاف الصورة والقصص التي تحكيها وكذلك باختلاف اللغة وباختلاف القصد، فلا نتوحد في روايتنا التي نؤمن بها ونعيشها بكل مشاعرنا وهويتنا بيقيننا الراسخ الذي لا ندعيه فنذهب به إلى إنسانية الغرب التي ليست بإنسانية، وهم أوربا الذي ترعرع في مخيلاتنا وفي عقولنا بفعل ماكينة إعلاميّة لم تكن أبدًا في صفنا أبهرتنا كالقرويُّ الذي أبهرته أضواء المدينة؛ تشبعنا به بهونٍ فأصبحت معاييرهم هي اللعبة التي نلعب بها، ونسينا كما ننسى دائمًا أن تلك المعايير هي معايير وضعها الغربيُّ للغربيُّ يُحدِّثنا بها تكبرًا وحين يتعلقُ الأمر بنا فتلك المعايير تمسحُ بممحاة وكأنّها لم تكن، فلم تكن أبدًا لنا في أبو غريب وفي أفغانستان وفي سوريا وفي اليمن وفي مصر وفي.. وفي...
ومع ذلك ننبطح في قيم الغرب الذي ينشدونا دائمًا حين يُقتلون، وعندما يكونون القاتلين نصبح كما نصبح دائمًا إرهابيين نستحق القتل... فتذكر عزيزي المنبطح المنبهر أن تلك المفاهيم لم ولن تكن أبدًا لك، وصدقني بمعاييرٍ صادقة يقوم بها شخصٌ يتوسط النزاع بدون أي ميلٍ أو زيغٍ سنكون دائمًا على الدوام نحنُ العربِ الأكثر إنسانية على مر التاريخ.
وفي النهاية أحب أن أتوجه بعميق شكري وتقديري لمشهدٍ لا يغادر تفكيري كلما رأيتُ منبطحًا على المنصاتِ هو مشهدٌ أبدعه المخرج والمؤلف محمد أمين في رائعته «ليلة سقوط بغداد»... والله هينضفونا!
|
والله هينضفونا - فيلم ليلة سقوط بغداد |
******